الأربعاء , سبتمبر 27 2023

هل تعلم خطورة الإدراك المتأخر على قدراتك التحليلية للسوق؟

أخبرني إن كنت قد سمعت العبارات التالية في السابق..

(هل تعلم بأنك لو قمت بالإستثمار في سهم فيسبوك عندما تم إدراجه في السوق الأمريكي في عام 2012 وبقيت محتفظاً به إلى وقتنا الحالي فإنه كان سيعطيك ربح سنوي بمعدل 23% وبشكل مستمر إلى يومنا هذا.. وهل تعلم بأنك لو قمت بشراء أو إستثمار 1,000 دولار فقط في عام 2010 في البتكوين لأصبحت قيمة هذا الإستثمار اكثر من 35 مليون دولار في عام 2017.. وهل تعلم بأن شرائك لسهم أمازون عندما تم طرحه في السوق كان سيعطيك ربح بأكثر من 120,000% حيث كان سعره فقط 18 دولار للسهم الواحد !!)

العبارات أعلاه نقرأها بشكل مستمر وهي صحيحة طبعاً في ظاهرها صعبة ومستحيلة التطبيق في حقيقتها خادعة ومدمرة لحساباتنا الإستثمارية عند تصديقها.. نقوم بتحليل شارت الذهب ونتخيل مقدار الأرباح التي كنا سنحققها لو قمنا بشراء هذه السلعة عندما كانت تتداول عند سعر 1,150 في عام 2018 ونقوم بحساب أرباح وهمية بعد وصوله لمستوى 1,800 دولار في وقتنا الحالي.. كل هذه التأثيرات التي نشعر بها معروفة تماماً عند خبراء الإقتصاد وعلم النفس وتسمى الإدراك المتأخر للأحداث Hindsight Bias.

الإدراك المتأخر Hindsight Bias

الإدراك المتأخر يعتبر ظاهرة معروفة في الإقتصاد السلوكي تسمح للمتداولين بإقناع أنفسهم بصحة توقعاتهم بعد حدوث الأمر بالفعل.. وهي تمثل أحياناً الضغط والتردد الذي يراود المتداولين عندما يقومون بتحليل سهم أو سلعة ويصابون بالحزن والهم بعد ثبوت صحة توقعاتهم ولكن بدون أن يقوموا بتنفيذ هذه الصفقات وقت إتخاذ القرار.. ولذلك تجد مصطلح في اللغة الانجليزية يصف الإدراك المتأخر بأنه 20/20 وهذا يعني النظرة الكاملة للحدث بعد وقوعه بنسبة 20 إلى 20 (العلامة الكاملة).

هل تذكر حديثك مع متداولين آخرين عندما أخبرتهم بأنك كنت متأكد من صعود اليورو بنسبة 500 نقطة قبل إسبوع وهذا ماحدث بالفعل؟ هل تذكر ندمك على عدم شراء السهم إكس عندما كان بعشرين ريالاً فقط قبل شهر واحد ووصل الآن إلى سعر خمسين ريالاً للسهم؟ كل هذه الأمثلة واكثر تعتبر صرخة واضحة تشير إلى وجود ظاهرة إدراك متأخر للحدث.. عبارات متكررة مثل (والله كنت أعلم بأن هذا ما كان سيحدث بالضبط !) أو عبارة (توقعت أن يرتفع الذهب ألف نقطة قبل اسبوعين الى مستوى كذا وكذا وقد وصل لهذا المستوى السعري بالمليمتر!).

وهذه الظاهرة لا تحدث فقط في حال صعود السعر ووصوله لمستويات (يعتقد المتداول بأنه كان يتوقعها بدقة) ولكنها تحدث أيضاً مع هبوط السعر كذلك.. مازال البعض يؤمن بأنه كان يعلم ما كان سيحدث من انهيار في السوق السعودي في عام 2006 وما كان سيحدث أيضاً للأسواق العالمية بعد هزة 2008 وهكذا..

في الحقيقة هناك وجه آخر لظاهرة الإدراك المتأخر ويجب أن يعيها المتداولون بشكل كامل من أجل تحسين إستثماراتهم ورفع مستوى إتخاذ القرار عند الحاجة.. وهي كالتالي:

الوجه الحقيقي لظاهرة الإدراك المتأخر:

أولاً: أنت يا – عزيزي القارئ والمتداول – لم تقم بتوقع حدوث ذلك بشكل صحيح.. أنت تعتقد ذلك فقط بمجرد رؤيتك للسعر الحالي ومقارنته بالسعر السابق عندما قمت بتحليل هذا السهم أو هذه السلعة فقط.. وسنتحدث عن ذلك بشكل اكبر لاحقاً في هذا المقال.

ثانياً: أنت لم تكن متأكداً من صحة قرارك هذا في السابق قبل حدوث الأمر بالفعل.. والدليل واضح.. هل ترغب برؤية الدليل.. لا مانع من ذلك.. قم بإعادة النظر في كشف حسابك وشاهد بنفسك بأنك لم تقم بالمضاربة أو بالتداول على هذا السهم أو هذه العملة عندما توقعت حدوث هذا الأمر.. هذا يعني أنك كنت تتكهن فقط ولم تكن متأكداً من حدوث هذا الأمر.

ثالثاً: وهو الأهم طبعاً.. أنت لو كنت قد توقعت حدوث ذلك بالفعل وقمت أيضاً بشراء هذه السلعة في السابق لم تكن لتنتظر وصولها للسعر الحالي قبل أن تقوم ببيعها.. لو توقعت صعود الدولار بمقدار ألف نقطة بالفعل وقمت بشراء الدولار في ذلك الوقت فكنت ستبيعه غالباً بعد صعود خمسين أو مائة نقطة على افضل الأحوال خوفاً من إنعكاس السعر وضياع هذا الربح الحالي.. أنت لم تكن لتصبر حتى يصل السعر للمنطقة التي توقعتها بالفعل لأن الإحتفاظ بصفقة رابحة اصعب من الإحتفاظ بصفقة خاسرة.. وعلى نفس المنوال لو قمت بشراء سهم فيسبوك او بتكوين او غيرها لم تكن لتصبر حتى تصل لمستويات قياسية اصبحت تعلم عنها لاحقاً بعد أن وصل السعر بالفعل لتلك المستويات.. أليس كذلك؟

خطورة تصديق هذه الظاهرة

بالطبع لو لم يكن هناك مخاطر حقيقية من تصديق ظاهرة الإدراك المتأخر لم أكن لأضيع وقتك في قراءة هذا المقال (وقتي انا يضيع عادي ماعندك مشكلة).. وإحدى اكبر هذه المخاطر هي التالي:

التصديق والإيمان بأنك قادر على توقع حركة السعر: عندما يقتنع المتداول بأنه كان يعلم يقيناً ما سيحدث – بعد حدوث الأمر بالفعل – سيجعله يقتنع بشكل غير واعي بأنه قادر على قراءة حركة السعر القادمة بدقة.. وهذا يعني دخول في صفقات – ومغامرات – لا طائل منها.. وليس ذلك فقط ولكن الثقة المفرطة التي سيكتسبها هذا المتداول ستعود عليه بالويلات بعد أن يتورط في تنفيذ صفقات جديدة غير مدروسة.. والخطوة التالية طبعاً في الثقة المفرطة هي الدخول في حالة غرور وإعتداد بالرأي.. ولا داعي لتذكيرك كيف يقوم السوق بنفسه بتولي هذه المهمة وكسر هذا الغرور لدى المتداولين.. وبشكل قاسي في أغلب الأحيان.

الأمر الآخر الذي سيعاني منه المتداولون في السوق هو تفعيلهم لأنصاف وأرباع الفرص الحالية بعد ندمهم على ضياع فرص سابقة كانوا (مؤمنين) بما سيحدث للسعر حينها بعد حدوث الأمر بالفعل.. ستجول في خاطر هؤلاء المتداولين فكرة خاطئة بأنهم لن يقوموا بإضاعة الفرصة الحالية كما حدث بالسابق عندما توقعوا صعود السهم اكس بنسبة 200% وكان توقعهم لذلك السهم صحيح تماماً (في مخيلتهم بالطبع) وهذا يعني تورط حقيقي في صفقات حالية ندماً وخوفاً من ضياع فرص جديدة بعد أن قاموا بإضاعة الفرصة السابقة.. مرة أخرى لا تهتم بإقناع هؤلاء المتداولين بخطورة هذا التفكير.. السوق بنفسه سيكون مستعداً لإقناعهم بعكس ذلك وبطريقة مؤدبة جداً 🙂

الخاتمة

لا أذكر أبداً أنني قمت بقضاء أمسية مع محللين فنيين أو ماليين في السوق ولم يقم أحد هؤلاء المحللين بإقناعنا بأنه كان يتوقع حدوث كذا وكذا.. أو بأنه كان متأكداً من صعود الداو جونز للمستوى الفلاني أو هبوط النفط بهذا الشكل أو صعود الذهب وهكذا.. كنت في السابق (عندما كنت ساذجاً) أسألهم على الفور إن كانوا قد قاموا بتنفيذ صفقة بناءاً على هذه التوقعات والتكهنات التي ذكروها ولكن ولله الحمد توقفت عن طرح هذا السؤال الساذج لمعرفتي بإجابتهم مسبقاً..

حاول من اليوم إقناع نفسك بشكل تدريجي بأن ما حدث قد حدث بالفعل ولم يكن لأي أحد معرفة حدوث ذلك لأن ذلك في علم الغيب فقط.. إشعر بالسعادة عندما تقوم بالفعل بتنفيذ صفقة بناءاً على هذا التوقع لأنه كما ذكرنا في مقال سابق أن هناك فارق جوهري بين المحلل الفني والمالي وبين المضارب الحقيقي.. وأحد أهم هذه الفوارق هو أن المضارب يقوم بإقران العمل (تنفيذ الصفقة) بعد إتخاذ القرار بينما يكتفي المحلل بتحليل الشارت (ثم تذكيرنا لاحقاً بصحة توقعاته تلك).

والآن بعد أن وصلت للخاتمة دعني أخبرك بهذا الأمر.. إن كنت قد توقعت بأن هذا ما سأتحدث عنه في هذا المقال بعد قرائتك للعنوان فقط فهذا يندرج أيضاً تحت خانة الإدراك المتأخر.. أنت إذاً مازلت تعاني من هذه الظاهرة ويجب عليك إعادة قراءة المقال مرة أخرى..

وبدون تكهنات..

4.8 9 votes
Article Rating

عن فيصل السوادي

فيصل السوادي ، محلل فني معتمد CFTe وعضو بالجمعية العالمية للتحليل الفني IFTA Organization مدرب ومحاضر لاستيراتيجيات السلوك السعري و أقوم بتقديم العديد من الدورات التدريبية في التحليل الفني والإدارة المالية والحالة الذهنية والنفسية الصحيحة للتداول في أسواق المال.. للوصول الى كل نشاطات المدرب التدريبية قم بزيارة الرابط https://bettertrend.net/trainers/details/11

شاهد أيضاً

إبدأ بالتشكيك بكل ما تعرفه عن التحليل والتداول في أسواق المال

  اكتشفت مؤخراً بأن جميع ما أقوم به من خلال نشر هذه المقالات ومن خلال …

Subscribe
نبّهني عن
guest

1 تعليق
الأكثر تصويتاً
الأحدث الأقدم
Inline Feedbacks
View all comments
Mohammed Kakaw
Mohammed Kakaw
3 سنوات

يشهد الله اني احبك في الله يا استاذ فيصل
لانك شخص صاحب رسالة علميه رائعة بالمجال الي انت فيه
حفظك الله ورعاك لاحبابك وادام صحتك وعافيتك

قم بالإطلاع على نشرة الاسواق اليومية الجديدةعلى هذا الرابط
1
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x